كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أَيْ ذَلِكَ الْجَعْلُ الْعَالِي الشَّأْنِ، الْبَعِيدُ الْمَدَى فِي الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، فَوْقَ بُعْدِ النَّيِّرَاتِ عَنِ الْإِنْسَانِ، التَّرَتُّبُ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ سَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَيَّامِ وَالْفُصُولِ وَتَقْدِيرِ السُّنَنِ الشَّمْسِيَّةِ، وَمِنْ تَشُكُّلَاتِ الْقَمَرِ الَّتِي نَعْرِفُ بِهَا الشُّهُورَ الْقَمَرِيَّةَ، هُوَ تَقْدِيرُ الْخَالِقِ الْغَالِبِ عَلَى أَمْرِهِ فِي تَنْظِيمِ مُلْكِهِ، الَّذِي وَضَعَ الْمَقَادِيرَ وَالْأَنْظِمَةَ الْفَلَكِيَّةَ وَغَيْرَهَا بِمَا اقْتَضَاهُ وَاسِعُ عِلْمِهِ، فَهَذَا النِّظَامُ وَالْإِبْدَاعُ مِنْ آثَارِ عِزَّتِهِ وَعِلْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ جُزَافٌ وَلَا خَلَلٌ {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 54: 49.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ الْعُلْوِيَّةِ مَقْرُونٌ بِفَائِدَتِهِ فِي تَعْلِيلِ جَعْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنُّجُومِ مَا عَدَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ نَيِّرَاتِ السَّمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْمَعْهُودُ فِي الِاهْتِدَاءِ، ذَكَّرَنَا تَعَالَى بِبَعْضِ فَضْلِهِ فِي تَسْخِيرِ هَذِهِ النَّيِّرَاتِ الَّتِي تُرَى صَغِيرَةً بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِبَعْضِ فَضْلِهِ فِي النَّيِّرَيْنِ الْأَكْبَرَيْنِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي عُمُومِ النُّجُومِ لِأَنَّ الْقَمَرَ مِمَّا يُهْتَدَى بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ، فَإِذَا اسْتَثْنَيْتَ بَعْضَ لَيَالِي الشَّهْرِ قُلْنَا: وَأَيُّ نَجْمٍ يُهْتَدَى بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؟ وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي بَدَاوَتِهَا تُؤَقِّتُ بِطُلُوعِ النَّجْمِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحِسَابَ، وَإِنَّمَا يَحْفَظُونَ أَوْقَاتَ السَّنَةِ بِالْأَنْوَاءِ، وَهِيَ نُجُومُ الْقَمَرِ فِي مَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا- وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ- وَقَدْ سَمَّوُا الْوَقْتَ الَّذِي يَجِبُ الْأَدَاءُ فِيهِ نَجْمًا تَجُوُّزًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، ثُمَّ سَمَّوُا الْمَالَ الَّذِي يُؤَدَّى نَجْمًا وَقَالُوا: نَجَّمَهُ إِذَا جَعَلَهُ أَقْسَاطًا. وَفِي الظُّلُمَاتِ هُنَا وَجْهَانِ ظُلُمَاتُ اللَّيْلِ بِالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَأَضَافَهُمَا إِلَيْهَا لِمُلَابَسَتِهَا لَهُمَا، أَوْ مُشْتَبِهَاتِ الطُّرُقِ شَبَّهَهَا بِالظُّلُمَاتِ قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ. وَكَانَ اهْتِدَاؤُهُمْ بِالنُّجُومِ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مِنَ السَّنَةِ، وَالثَّانِي مَعْرِفَةُ الْمَسَالِكِ وَالطُّرُقِ وَالْجِهَاتِ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الظُّلُمَاتِ وَبَيَانِ أَنْوَاعِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 63 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَهَاهُنَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ النَّهْيَ عَنْ عِلْمِ النُّجُومِ الَّذِي يَزْعُمُ أَهْلُهُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ بِهِ مَا سَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْأَحْدَاثِ قَبْلَ حُدُوثِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فَأَطْلَقَ النَّهْيَ عَنْ عِلْمِ النُّجُومِ إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ وَيُعْرَفُ بِهِ الْحِسَابُ، وَيَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِبَارُ بِزِينَةِ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هِيَ الَّتِي هَدَى إِلَيْهَا الْكِتَابُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ تِلْكَ الْأَوْهَامُ الَّتِي يَزْعُمُونَ مَعْرِفَةَ الْغَيْبِ بِهَا دُونَ عِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مِنْ آيَاتِ قُدْرَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَا يُعْرَفُ مِنْ عِلْمٍ آخَرَ، وَقَدِ اتَّسَعَ هَذَا الْعِلْمُ فِي عَصْرِنَا هَذَا بِمَا اسْتَحْدَثَ أَهْلُهُ مِنَ الْمَرَاصِدِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْأَبْعَادِ، وَالْآلَاتِ الْمُحَلِّلَةِ لِلنُّورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا سُرْعَةُ سِيَرِهِ، وَأَبْعَادُ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَمِسَاحَةُ الْكَوَاكِبِ وَكَثَافَتُهَا وَالْمَوَادُّ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْهَا. وَإِنَّنَا نَقْتَبِسُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ كَلِمَةً فِي أَبْعَادِ بَعْضِ النُّجُومِ الثَّوَابِتِ الَّتِي هِيَ شُمُوسٌ مِنْ جِنْسِ شَمْسِنَا لِيُعْلَمَ بِهَا قَدْرُ عِلْمِ رَبِّنَا وَسِعَةِ مُلْكِهِ.
النُّجُومُ تُعَدُّ بِالْمَلَايِينِ، لَكِنَّ عُلَمَاءَ الْفَلَكِ لَمْ يَتَمَكَّنُوا حَتَّى الْآنَ إِلَّا مِنْ مَعْرِفَةِ إِبْعَادِ بَعْضِ الْمِئَاتِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ سَائِرَهَا أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يُرَى اخْتِلَافٌ فِي مَوَاقِعِهِ، وَالَّذِي عُرِفَ بُعْدُهُ مِنْهَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَلَّا يُحْسَبَ بُعْدُهُ بِالْأَمْيَالِ، بَلْ بِالْمَسَافَةِ الَّتِي يَقْطَعُهَا النُّورُ فِي سَنَةٍ مِنَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ النُّورَ يَسِيرُ 86000 مِيلٍ فِي الثَّانِيَةِ فَيَقْطَعُ فِي الدَّقِيقَةِ 5160000 مِيلٍ، وَفِي السَّنَةِ نَحْوَ 6000000000000 مِيلٍ، وَقَدْ وُجِدَ بِالرَّصْدِ أَنَّ أَقْرَبَ النُّجُومِ مِنَّا لَا يَصِلُ نُورُهُ إِلَيْنَا إِلَّا فِي أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ وَنَحْوِ نِصْفِ سَنَةٍ، فَيُقَالُ إِنَّ بُعْدَهُ عَنَّا أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ وَنِصْفُ سَنَةٍ نُورِيَّةٍ. وَمِنَ النُّجُومِ مَا لَا يَصِلُ النُّورُ مِنْهُ إِلَيْنَا إِلَّا فِي أَلْفِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَالنَّجْمُ الْمُسَمَّى النَّسْرُ الْوَاقِعُ يَصِلُ النُّورُ مِنْهُ إِلَيْنَا فِي نَحْوِ ثَلَاثِينَ سَنَةً لِأَنَّ بُعْدَهُ عَنَّا نَحْوُ 180000000000000، وَالنَّجْمُ الْمُسَمَّى بِالسِّمَاكِ الرَّامِحِ يَصِلُ النُّورُ مِنْهُ إِلَيْنَا فِي نَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً لِأَنَّ بُعْدَهُ عَنَّا 300000000000000 وَأَمَّا الشِّعْرَى الْعَبُورُ وَهُوَ أَسَطَعُ النُّجُومِ نُورًا فَبُعْدُهَا عَنَّا نَحْوُ تِسْعِ سَنَوَاتٍ نُورِيَّةٍ، وَالْعَيُوقُ بُعْدَهُ عَنَّا نَحْوُ 32 سَنَةً نُورِيَّةً.
وَأَوَّلُ مَنْ قَاسَ أَبْعَادَ النُّجُومِ بِالضَّبْطِ الْفَلَكِيُّ (سْتُرُوفُ) فَإِنَّهُ قَاسَ بُعْدَ النَّسْرِ الْوَاقِعِ مِنْ (سَنَةِ 1835 إِلَى سَنَةِ 1838 مِيلَادِيَّةَ) فَجَاءَتْ نَتِيجَةُ قِيَاسِهِ مُطَابِقَةً لِنَتِيجَةِ الْقِيَاسَاتِ الْحَدِيثَةِ مَعَ أَنَّ الْفَلَكِيِّينَ يَسْتَخْدِمُونَ الْآنَ مِنَ الْوَسَائِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي عَصْرِهِ اهـ.
وَلَعَلَّ كَثْرَةَ الْآيَاتِ فِي عَالَمِ السَّمَاءِ هِيَ نُكْتَةُ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهَا آيَاتُ التَّنْزِيلِ أَوْ آيَاتُ التَّكْوِينِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ مُبَيِّنٌ لِطُرُقِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي الْعَالَمِ السَّمَاوِيِّ لِلَّذِينِ يَعْلَمُونَ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ شَيْئًا مِنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَعَجَائِبِ صُنْعِهِ فِيهِ، فَيَزْدَادُونَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ بَحْثًا وَعِلْمًا، فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ نَامِيًا مُسْتَمِرًّا. وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَوَجْهُهُ أَظْهَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِلْمِ اللهِ تَعَالَى وَحَكَمَتِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى خَلْقِهِ، لَا يَسْتَخْرِجُهَا مِنَ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ إِلَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ، أَيْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ، الَّذِينَ يَقْرِنُونَ الْعِلْمَ بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا يَرْضَوْنَ بِأَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى الْحَظِّ، مَا تَمَتَّعَ بِهِ اللَّحْظُ، وَلَا غَايَةَ النَّظَرِ وَالْحِسَابِ، أَنَّ يُقَالَ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ.
وَمِنَ الِاعْتِبَارِ قَوْلُ صَاحِبِ الْمُقْتَطَفِ بَعْدَ مَقَالَاتٍ لَخَّصَ فِيهَا بَعْضَ بِسَائِطِ عِلْمِ الْفَلَكِ- وَمِنْهَا الْكَلِمَةُ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا- فَإِنَّهُ قَالَ لَمَّا انْتَهَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَرَجَّحَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْ سَيَّارَاتِهِ لِحَيَاةِ الْبَشَرِ غَيْرُ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَيَّارَاتُ سَائِرِ الشُّمُوسِ كَذَلِكَ، وَكُلُّهَا أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ، قَالَ: وَالْإِنْسَانُ أَوْسَعُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ إِدْرَاكًا، وَهُوَ عَلَى سَعَةِ إِدْرَاكِهِ لَا يَعْلَمُ تَرْكِيبَ جِسْمِ النَّمْلَةِ، وَلَا كَيْفِيَّةَ تَجَمُّعِ الدَّقَائِقِ فِي حَبَّةِ الرَّمْلِ، عِلْمٌ وَاسِعٌ وَجَهْلٌ مُطْبِقٌ. وَكِلَاهُمَا نَاطِقٌ بِأَنَّ مُبْدِعَ هَذَا الْكَوْنِ أَعْظَمُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَتَصَوَّرُ عَقْلُ الْإِنْسَانِ؟.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَنَا اللهُ تَعَالَى بِبَعْضِ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ ذَكَّرَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِبَعْضِ آيَاتِهِ فِي أَنْفُسِنَا. الْإِنْشَاءُ إِيجَادُ الشَّيْءِ وَتَرْبِيَتُهُ أَوْ إِحْدَاثُهُ بِالتَّدْرِيجِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي التَّنْزِيلِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ بِجُمْلَتِهِ وَخَلْقِ أَعْضَائِهِ وَمَشَاعِرِهِ، وَإِيجَادِ الْأَقْوَامِ وَالْقُرُونِ مِنْ أُمَمٍ بَعْضِهَا فِي إِثْرِ بَعْضٍ، وَفِي الْبَعْثِ، وَفِي خَلْقِ الشَّجَرِ وَالْجَنَّاتِ، وَفِي إِحْدَاثِ السَّحَابِ. قَالَ فِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ: وَأَنْشَأَ حَدِيثًا وَشِعْرًا وَعِمَارَةً انْتَهَى. وَالنَّفْسُ مَا يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ وَذَاتُهُ فَيُطْلَقُ عَلَى الرُّوحِ وَعَلَى الْمَرْءِ الْمُرَكَّبِ مِنْ رُوحٍ وَبَدَنٍ. وَالْمُسْتَقَرُّ (بِفَتْحِ الْقَافِ) حَيْثُ يَكُونُ الْقَرَارُ وَالْإِقَامَةُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} كَمَا قَالَ: {جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} 27: 61 قَالَ الرَّاغِبُ: قَرَّ فِي مَكَانِهِ يَقِرُّ قَرَارًا إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا جَامِدًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْقُرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ وَهُوَ يَقْتَضِي السُّكُونَ، وَالْحَرُّ يَقْتَضِي الْحَرَكَةَ انْتَهَى. وَالْمُسْتَوْدَعُ مَوْضِعُ الْوَدِيعَةِ وَهُوَ مَا يَتْرُكُهُ الْمَرْءُ عِنْدَ غَيْرِهِ مُؤَقَّتًا لِيَأْخُذَهُ بَعْدُ، فَهِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ وَدَعَ الشَّيْءَ إِذَا تَرَكَهُ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. وَيَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ، وَيَكُونُ الثَّانِي اسْمُ مَفْعُولٍ بِمَعْنَى الْوَدِيعَةِ، وَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَازِمٌ إِلَّا مَا جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ كَقَوْلِ النُّحَاةِ ظَرْفٌ مُسْتَقَرٌّ، أَيْ مُسْتَقَرٌّ فِيهِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ إِمَّا الرُّوحُ الَّتِي هِيَ الْخَلْقُ الْآخَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ أَطْوَارِ خَلْقِ الْجَسَدِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} 23: 14 وَإِمَّا الذَّاتُ الْمُرَكَّبَةُ مِنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ الَّذِي تَسَلْسَلَ مِنْهُ سَائِرُ النَّاسِ بِالتَّوَالُدِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ، وَهُوَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ مَعَ بَحْثٍ طَوِيلٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَسَيَجِيءُ شِبْهُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَفِي إِنْشَاءِ جَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَفِي التَّذْكِيرِ بِهِ إِرْشَادٌ إِلَى مَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِ نِعْمَتِهِ، وَمِنْ وُجُوبِ التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ وَالتَّعَاوُنِ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَعَدَمِ جَعْلِ تَفَرُّقِهِمْ إِلَى شُعُوبٍ وَقَبَائِلَ مَدْعَاةً لِلتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو الْمُسْتَقِرُّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ، فَرَوَى جُمْهُورُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُسْتَقَرُّ- بِالْفَتْحِ- مَا كَانَ فِي الرَّحِمِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا اسْتُودِعَ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَالدَّوَابِّ- وَفِي لَفْظٍ: الْمُسْتَقَرُّ مَا فِي الرَّحِمِ وَعَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَبَطْنِهَا مِمَّا هُوَ حَيٌّ وَمِمَّا هُوَ قَدْ مَاتَ- وَفِي لَفْظٍ: الْمُسْتَقَرُّ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا كَانَ فِي الصُّلْبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ: مُسْتَقَرُّهَا فِي الدُّنْيَا وَمُسْتَوْدَعَهَا فِي الْآخِرَةِ، أَيِ النَّفْسِ. وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ: الْمُسْتَقَرُّ الرَّحِمُ، وَالْمُسْتَوْدَعُ الْمَكَانُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ قَوْلَ الْحَسَنِ مُفَسِّرًا لَهُ فَقَالَ: الْمُسْتَقَرُّ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سَعِيدًا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ السَّعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ الشَّقَاوَةُ، وَلَا تَبْدِيلَ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْأَحْوَالُ مُتَبَدِّلَةٌ، فَالْكَافِرُ قَدْ يَنْقَلِبُ مُؤْمِنًا وَالزِّنْدِيقُ قَدْ يَنْقَلِبُ صَدِّيقًا، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لِكَوْنِهَا عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ لَا يَبْعُدُ تَشْبِيهُهَا بِالْوَدِيعَةِ. وَذَكَرَ لِلْأَصَمِّ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَنْ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ الْأُولَى وَدَخَلَ الدُّنْيَا وَاسْتَقَرَّ فِيهَا، وَالْمُسْتَوْدَعُ الَّذِي لَمَّا يُخْلَقْ بَعْدُ. وَثَانِيهِمَا: الْمُسْتَقَرُّ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي قَرَارِ الدُّنْيَا، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَنْ فِي الْقُبُورِ حَتَّى يُبْعَثَ. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ وَجْهُ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ كَسْرِ الْقَافِ أَوِ الْمُسْتَقَرِّ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرًا وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ التَّقْدِيرَ- فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ ذَكَرٌ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ أُنْثَى، فَعَبَّرَ عَنِ الذَّكَرِ بِالْمُسْتَقَرِّ؛ لِأَنَّ النُّطْفَةَ تَتَوَلَّدُ فِي صُلْبِهِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأُنْثَى بِالْمُسْتَوْدَعِ لِأَنَّ الرَّحِمَ شِبْهَةٌ بِالْمُسْتَوْدَعِ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الشَّاعِرِ.
وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ** مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْآبَاءِ أَبْنَاءُ

وَأَقُولُ: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مَا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ- كَدَأْبِنَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ- إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} 22: 5 الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 11: 6 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُسْتَقَرُّهَا حَيْثُ تَأَوِي، وَمُسْتَوْدَعُهَا حَيْثُ تَمُوتُ. وَقَالَ: مُسْتَقَرُّهَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمُسْتَوْدَعُهَا حَيْثُ تَمُوتُ. فَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَقَرِّ- بِفَتْحِ الْقَافِ- الرَّحِمُ، وَالْمُسْتَوْدَعِ الْقَبْرُ، وَأَمَّا الْمُسْتَقِرُّ- بِكَسْرِ الْقَافِ- فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْ يَطُولُ عُمُرُهُ فِي الدُّنْيَا، كَأَنَّهُ قَالَ: فَمِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ فِي الدُّنْيَا يُعَمَّرُ عُمُرًا طَوِيلًا، وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ لَا اسْتِقْرَارَ لَهُ فِيهَا بَلْ تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ طِفْلًا أَوْ يَافِعًا. وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُ قِرَاءَةِ الْفَتْحِ بِهَذَا أَيْ فَمِنْهَا ذُو اسْتِقْرَارٍ وَذُو اسْتِيدَاعٍ. وَآخَرُ مَا خَطَرَ لِي بَعْدَ تَلْخِيصِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ الرُّوحُ- وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ- وَالْمُسْتَوْدَعَ الْبَدَنُ. وَالْجُمْلَةُ مِمَّا يَتَّسِعُ الْمَجَالُ فِيهِ لِلتَّفْسِيرِ وَالتَّقْدِيرِ وَالْإِيجَازُ مَقْصُودٌ بِهِ.
{قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} أَيْ قَدْ جَعَلْنَا الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةَ لِسُنَّتِنَا فِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُفَصَّلَةً، كُلُّ فَصْلٍ وَنَوْعٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَإِرَادَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَصَّلْنَاهَا كَذَلِكَ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، أَيْ يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ وَمَرْمَاهُ وَيَفْطَنُونَ لِدَقَائِقِهِ وَخَفَايَاهُ، فَالْفِقْهُ- وَإِنْ فُسِّرَ بِالْعِلْمِ وَبِالْفَهْمِ- أَخَصُّ مِنْهُمَا. قَالَ الرَّاغِبُ: الْفِقْهُ هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى عِلْمٍ غَائِبٍ بِعِلْمٍ شَاهِدٍ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ إِنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الْفَتْحِ وَالشَّقِّ. وَأَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلُ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّ فَقِهَ وَفَقَأَ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْإِبْدَالَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ كَثِيرٌ وَفَقَأَ الْبَثْرَةَ شَقَّهَا وَسَبَرَ غَوْرَهَا، فَالْفَقْءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالْفِقْهُ فِي الْمَعْنَوِيَّاتِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا النَّظَرُ فِي أَعْمَاقِ الشَّيْءِ وَبَاطِنِهِ. فَمَنْ لَا يَفْهَمُ إِلَّا ظَوَاهِرَ الْكَلَامِ وَلَا يَفْطَنُ إِلَّا لِمَظَاهِرِ الْأَشْيَاءِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ فَقِهَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عِلْمُ الشَّرْعِ فِقْهًا لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ. وَلَمَّا كَانَ اسْتِخْرَاجُ الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ مِنْ خَلْقِ الْبَشَرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى غَوْصٍ فِي أَعْمَاقِ الْآيَاتِ، وَفِطْنَةٍ فِي اسْتِخْرَاجِ دَقَائِقِ الْحِكَمِ وَالْبَيِّنَاتِ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالْفِقْهِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَالِاهْتِدَاءُ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى دِقَّةِ النَّظَرِ وَلَا غَوْصِ الْفِكْرِ، وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ مَظَاهِرِ عِلْمِ الْفَلَكِ؛ فَلِذَلِكَ اكْتَفَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ بِالتَّعْبِيرِ بِالْعِلْمِ الشَّامِلِ لِمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ دِقَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ كَظَوَاهِرِهِ، وَلِعِبَرِهِ كَدَقَائِقِهِ. وَقَدْ فَطَنَ لِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ- وَمَا أَجْدَرَهُ بِهِ- فَقَالَ: فإن قلت لِمَ قِيلَ {يَعْلَمُونَ} مَعَ ذِكْرِ النُّجُومِ، و{يَفْقَهُونَ} مَعَ ذِكْرِ إِنْشَاءِ بَنِي آدَمَ؟ قلت: لِأَنَّ إِنْشَاءَ الْإِنْسِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَتَصْرِيفِهِمْ بَيْنَ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ أَلْطَفُ وَأَدَقُّ صَنْعَةً وَتَدْبِيرًا، فَكَانَ ذِكْرُ الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ اسْتِعْمَالُ فِطْنَةٍ وَتَدْقِيقُ نَظَرٍ مُطَابِقًا لَهُ انْتَهَى. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فَزَعَمَ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ صِنَاعِيٌّ، وَأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ اخْتِلَافَ التَّعْبِيرِ لِلتَّفَنُّنِ. وَذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ الْفِقْهَ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْفَهْمِ، وَمَا بُنِيَ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ، وَأَيْنَ هُوَ فِي فَهْمِ أَسْرَارِ اللُّغَةِ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ؟ وَأَيْنَ الْمُقَلِّدُ لِظَوَاهِرَ بَعْضِ النُّقُولِ مِنَ الْإِمَامِ اللَّوْذَعِيِّ؟ وَأَيُّهُمَا السَّلِيقِيُّ وَالصِّنَاعِيُّ؟.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} هَذِهِ الْآيَةُ الْمُنَزَّلَةُ مُرْشِدَةٌ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ وَهُوَ إِيجَادُ الْمَاءِ، وَإِنْزَالُهُ مِنَ السَّمَاءِ، وَجَعْلُهُ سَبَّبَا لِلنَّبَاتِ، وَجَعْلُ النَّبَاتِ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً، مُشْتَبِهَةً وَغَيْرَ مُتَشَابِهَةٍ، وَبِذَلِكَ يَلْتَقِي آخِرُ هَذَا السِّيَاقِ بِأَوَّلِهِ. أَيْ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجْنَا بِسَبَبِ هَذَا الْمَاءِ الْوَاحِدِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَصْنَافِ هَذَا النَّامِي الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ أَيْ مِنَ النَّبَاتِ خَضِرًا أَيْ شَيْئًا غَضًّا أَخْضَرَ بِالْخِلْقَةِ لَا بِالصِّنَاعَةِ، وَهُوَ مَا تَشَعَّبَ مِنْ أَصْلِ النَّبَاتِ الْخَارِجِ مِنَ الْحَبِّ كَسَاقِ النَّجْمِ وَأَغْصَانِ الشَّجَرِ، نُخْرِجُ مِنْهُ أَيْ مِنْ هَذَا الْأَخْضَرِ الْمُتَشَعِّبِ مِنَ النَّبَاتِ آنًا بَعْدَ آنٍ حَبًّا مُتَرَاكِبًا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَهُوَ السُّنْبُلُ- فَهَذَا تَفْصِيلٌ لِنَمَاءِ النَّجْمِ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ وَنِتَاجِهِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَالَ نَظِيرِهِ مِنَ الشَّجَرِ فَقَالَ: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}، النَّخْلُ الشَّجَرُ الَّذِي يُنْتِجُ التَّمْرَ، يُسْتَعْمَلُ لَفْظُهُ فِي الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَجَمْعُهُ نَخِيلٌ. و{مِنْ طَلْعِهَا} بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَطَلْعُهَا أَوَّلُ مَا يَطْلُعُ أَيْ يَظْهَرُ مِنْ زَهْرِهَا الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ ثَمَرُهَا، وَقَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنْهُ كَافُورُهُ أَيْ وِعَاؤُهُ، وَمَا يَنْشَقُّ عَنْهُ الْكَافُورُ مِنَ الطَّلْعِ يُسَمَّى الْغَرِيضُ وَالْإِغْرِيضُ، وَالْقِنْوَانُ جَمْعُ قِنْوٍ- بِالْكَسْرِ- وَهُوَ الْعَذْقُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الثَّمَرُ، وَمِثْلُهُ فِي وَزْنِهِ وَاسْتِوَاءِ مُثَنَّاهُ، وَجَمْعِهِ الصِّنْوُ وَالصِّنْوَانُ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ الشَّجَرَةِ مِنَ الْفُرُوعِ. وَالْقِنْوَانُ مِنَ النَّخْلِ كَالْعَنَاقِيدِ مِنَ الْعِنَبِ وَالسَّنَابِلِ مِنَ الْقَمْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ طَلْعَ النَّخْلِ قِنْوَانٌ دَانِيَةُ الْقُطُوفِ سَهْلَةُ التَّنَاوُلِ، أَوْ بَعْضُهَا دَانٍ قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ لِكَثْرَةِ حَمْلِهَا.
{وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ {جَنَّاتٍ} بِالنَّصْبِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَنُخْرِجُ مِنْهُ- أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْخَضِرِ- جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ. وَقَرَأَهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالرَّفْعِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمْ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلَكُمْ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ- أَوْ- وَهُنَاكَ جَنَّاتٌ- أَوْ- وَمِنَ الْكَرْمِ جَنَّاتٌ إِلَخْ. وَسَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ بَعْدُ {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أَيْ وَأَخُصُّ مِنْ نَبَاتِ كُلِّ شَيْءٍ الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ حَالَ كَوْنِهِ مُشْتَبِهًا فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ، غَيْرَ مُتَشَابِهٍ فِي بَعْضٍ آخَرَ. قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْحَالَ مِنَ الرُّمَّانِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ أَنْوَاعٌ تَشْتَبِهُ فِي شَكْلِ الْوَرَقِ وَالثَّمَرِ وَتَخْتَلِفُ فِي لَوْنِ الثَّمَرِ وَطَعْمِهِ، فَمِنْهُ الْحُلْوُ وَالْحَامِضُ وَالَمُزُّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَالَ مِنْ مَجْمُوعِ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ، أَيْ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُشْتَبِهَ وَالْمُتَشَابِهَ هُنَا بِمَعْنًى، إِذْ يُقَالُ: اشْتَبَهَ الْأَمْرَانِ وَتَشَابَهَا كَمَا يُقَالُ اسْتَوَيَا وَتَسَاوَيَا. وَقَدْ قُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ {مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} وَهُوَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي آية: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} 141 إِلَخْ. وَسَتَأْتِي، وَالْحَقُّ أَنَّ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ فَرْقًا فَمَعْنَى اشْتَبَهَا الْتَبَسَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ مِنْ شِدَّةِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، وَمَعْنَى تَشَابَهَا أَشْبَهَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالصِّفَاتِ، فَهَذَا أَعَمُّ مِمَّا قَبْلَهُ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ بَعْضَ مَا ذَكَرَ يَتَشَابَهُ وَلَا يَشْتَبِهُ، وَبَعْضُهُ يَتَشَابَهُ حَتَّى يَشْتَبِهَ، حَتَّى عَلَى الْبُسْتَانِيِّ الْمَاهِرِ، كَمَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ وَاخْتَبَرْنَاهُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الرُّمَّانِ الْحُلْوُ مَعَ الْحَامِضِ، وَهَذَا مِنْ دِقَّةِ تَعْبِيرِ التَّنْزِيلِ فِي تَحْدِيدِ الْحَقَائِقِ.